الشاعر وكاتب الاغاني العراقية جودت التميمي

ولد الشاعر المبدع جودت التميمي في محافظة ميسان العام 1928 من القرن الماضي ولم يكن اسمه الحقيقي هذا بل هوا اسمه الفني الذي اختاره لنفسه، وان اسمه الصحيح كما سرني به هو (مكطوف اللامي)، وانه من عائلة فقيرة شأنها شأن العوائل الجنوبية التي تعاني من الفقر والتهميش والاقصاء.
ولم يكن احد من افراد عائلته او اقاربه مثقفا او سياسيا بارزا او صاحب جاه او ثروة ينتمي الى الطبقات المترفة من الوسط الراقي كي يستعين به ليقوده الى طريق الثقافة والشعر والابداع، بدأت عليه علامات النبوغ والعبقرية في سن مبكرة، فاعتمد على نفسه بتفجير طاقاته الابداعية التي احسها تنمو بداخله وحين نضجت اضاعها بتخبطاته العشوائية الهوجاء. تطوع بسلك الجيش في منتصف الخمسينيات حتى وصل الى رتبة عريف، وانتمى في الوقت نفسه الى الحزب الشيوعي العراقي ودخل السجن وعانى من التعذيب والابعاد والحصارات التي تفرض على السياسيين، وبعد هذه التجربة المريرة التي عاشها هجر العقائد جميعا واتهمها بالوصولية والذيلية والانكفاء والدوران في حلقة فارغة، وفي مابعد ندم على الكثير من الاقاويل والحكايات والتصاريح.
انه وكلبي بهيمة الوحشة انسبينه
لادرب يعرف وجهنه...
ولاوجه شفنه طفولتنه بجبينه!
لاجدم ينكل ابشارة ويعتنينه
لاشفايف تكطف البسمة علينه!
ولابقت ايد التحط دفو المحبة بحضن ادينة
ولابعد تلعب مراجيح العشك والشوك بينه!
ظلي يفلانه بغرورج...
يلي كلبج والثلج من فرد طينة!
لشوكت؟
لشوكت نبقى انتحمه اعلى الثلج....،
وحنه من جانت محبتنه جهنم مادفينه!!
الزواج
تزوج مرة واحدة في حياته من السيدة (هيام) التي كتب عنها الكثير من الاغنيات والتي كانت ابرزها (اربع حروف بغصن عمري اكتبت)، لكن هذا الزواج لم يدم طويلا بسبب مزاجية جودت وعدم المبالاة وعدم الالتزام بواجبات البيت والزوجة، فتم الطلاق بعد فترة وجيزة لا تتعدى الشهور القليلة، وعن هذه التجربة المؤلمة كتب اغنية (سبع تيام من عمري حلالي) التي غنتها الفنانة المبدعة لميعة توفيق. لم يرزق بأبناء من زواجه الفاشل لكنه يصر على وجود ابنة له اسمها (دموع) وانها تعيش مع امها وانه يزورها ما بين حين وحين، وكانت دموع بالنسبة له كما وفيقة الى السياب هي الحبيبة والام والبنت والاخت والزوجة والوطن الجميل المضاع. وكانت زوجته تكثر من المطاليب التي لا يقوى على توفيرها لها فاثقلت كاهله الديون الكثيرة وكان يعاني من ضائقة مالية في اغلب الاوقات، ورغم العذابات التي حصلت له من هذه المرأة كان يحن لها ويتمنى ان تعود الامور الى سابق عهدها القديم، ومن الغرائب احتفاظه ببعض خصلات شعرها المتساقط فوق الفراش بصندوق خشبي عتيق اعتزازا بحبها وعلاقتهما التي انتهت الى الابد.
انتي وانه
اثنينه اباخر محطة امن العمر
والهم ولانه
اثنينه نعاين على الريل التعده وماتنانه
اثنينه اطفرنا الشباب وما تهنينه بصبانه
اثنينه شموع العرس ظلت ورانه
عندي جلمة
ولو مامش بينج او بيني ميانه
شكلتي لو نخلط توالي العمر ونعوض الجزانه؟

البهلوان
اضطرته ظروف الحياة القاسية ان يمثل دور البهلوان الساحر السعيد في مناسبات الافراح والاعراس والميلاد والطهور التي كانت تقام في البيوت الراقية التي كانت تعج بالنساء الجميلات والضيوف الانيقين والاضواء الخافتة والثياب البراقة والموائد العامرة بالاكل والشراب وورود الزينة والشراشف الملونة وقناني الخمور الاجنبية المستوردة بالطائرات، وكان شاعرنا الذبيح بخنجر الفاقة والعوز والاباطيل يتلو على مسامعهم احلى القصائد من الشعر العذب وهم كقطعة ثلج باردة لا تهزهم هذه المشاعر الجياشة والاحاسيس الملتهبة، ولاهم لديهم سوى المظاهر المزيفة وجمع المال والعيش على هموم الناس الفقراء، وفي احدى الحفلات نعتهم بابشع الصفات وكان يدعو الى الثورة على هذه المجتمعات التي كان افرادها من الطبقات السياسية الحاكمة التي كانت تعيش حياة غائمة بلا هدف ولا وضوح. وعند نهاية الاحتفال تحاصره كآبة لا يستطيع ان يقاومها فيشعر بتلك اللحظة القاتلة انه ملك الكوميديا السوداء ملك يلقي النكات على قاتليه فيضحكون الى حد البكاء، وفي اخر الليل يمضون الى بيوتهم الفاخرة، وشاعرنا الحزين بلا مأوى يبحث عن مصطبة مهجورة يقضي ليلته الغرائبية عليها دون ازعاج او وشاية.
اه من هاي الفجيعة
اه من هاي النهاية
اه من نومي على دروب الوطن مثل النفاية !!
لاردت منك رتوش
لاردت منك مراية
لاردت منك هلاهل ..
لاردت صوغة امن الولاية
ولشوكت عمري يظل عاشور وعيوني سباية؟
ونته تدري هواي نشدوني الحبايب
يمته فوك الدار تتعلك الراية؟
صدك يمته؟
يمته يلذبيتني بكتر الدرب ذبة النواية
وانه غاد اعلى الكناطر!
يلمشيت اجيب لسنين الحزن جبر الخواطر؟!

طفل صغير
جودت التميمي طفل صغير يتخفى تحت عباءة رجل كبير لم يستفد من تجاربه الحياتية مطلقا، وانما كانت الفائدة شعرية وحتى هذه الموهبة التي اسبغتها عليه الطبيعة ومنحها له الرب الذي يختار من مخلوقاته اناسا اكفاء يحملون رسالاته الدينية والاجتماعية والسياسية والادبية، والرسالة الاخيرة كانت خير ما يمتاز به هذا الشاعر الاصيل الذي اضاع موهبته في دنيا المجون والحانات التي تقود شاعرنا في لحظة السكر الى الاضطراب والضياع والغموض واللذة والخفوت، فغادر عالم القيم والصفاء وانحدر الى سفوح الرذيلة والابتذال والقلق، وهبط الى الهاوية بشراع من اسمال سوداء، كأنه السندباد المبحر في شواطئ الجحيم، وكان معه في لحظة الهبوط المريرة اخوة اوفياء شاركوه في رحلة الموت والمتاهة والبشاعة والرتابة والفقر والغضب والذل والانكسار، وقاسموه النوم في غرف العذاب الصغيرة المزدحمة بالنساء والشياطين والصعاليك والسحرة.